أسباب ارتفاع ضغط الدم ـ1

على الرغم من الأبحاث العلمية المكثفة، لم يتوصل العلماء إلى تحديد أسباب ارتفاع ضغط الدم في غالبية الحالات (أكثر من 95%) ، ويعرف ارتفاع الضغط في هذه الحالات بالارتفاع الأولي أو الأساسي . أما الحالات التي يمكن التوصل فيها إلى سبب محدد وواضح لارتفاع الضغط، ويعرف بالارتفاع الثانوي ، فهي تشكل أقل من 5% في المائة من إجمالي الحالات.

ارتفاع ضغط الدم الأولي
تلعب كل من الوراثة والظروف البيئية والمعيشية درواً مهماً في حدوث ارتفاع الضغط لدى الغالبية العظمى من المرضى . ويبدو أن الاستعداد الوراثي يهيئ المسرح لظهور المرض عند توافر العوامل البيئية المواتية.
أ ـ العامل الوارثي:
من الملاحظ أن مرض ضغط الدم المرتفع يكثر حدوثه بين أفراد الأسرة الواحدة ، وأنه ينتقل من الأجداد إلى الأبناء والأحفاد ، وأن القابلية للإصابة بالمرض تزداد عند وجوده لدى كل من الأب والأم ولذلك عكف العلماء على بحث أوجه الخلل التي تصيب الجينات (المورثات) وتكون مسئولة عن ارتفاع الضغط . وقد شرحنا بالتفصيل الجينات المسئولة عن تخليق البروتينات المختصة بالتحكم في ضغط الدم ، خاصة جينات جهاز الرينين أنجيوتنسين وجينات جهاز آخر مسئول عن توسيع الشرايين ويعرف باسم الكاليكرين ـ كينين ،والجينات التي تتحكم في تركيب جدران الخلايا في الأوعية الدموية ، خاصة تلك المسئولة عن حركة الأملاح عبر جدار الخلية والتي يتوقف عليها دخول وخروج الجزيئات المختلفة ، وأيضاً الجينات التي تنظم إفراز هرمونات قشرة الغدة فوق الكلية . وقد أمكن بالفعل تحديد الخلل الوراثي في عدد من هذه الأجهزة لدى بعض المرضى ، إلا أنها حالات قليلة جداً بالقياس إلى العدد الكبير من حالات ارتفاع ضغط الدم ,وترجع صعوبة اكتشاف المورثات (الجينات) المسئولة عن ضغط الدم المرتفع إلى ثلاثة أسباب رئيسية:
1ـ يكمن السبب الأول في تعريف مرض ارتفاع الضغط ذاته حيث إن الأرقام السارية حالياً(140 مم زئبق للضغط السيستولي أو الانقباضي ، و 90 مم زئبق للضغط الدياستولي أو الانبساطي) اتفق عليها العلماء حديثاً في ضوء الخطورة المتوقعة عند تجاوز ارتفاع الضغط لهذه الحدود ، وهي أرقام تختلف عن تلك التي كان معمولاً بها في فترات سابقة . ناهيك عن أن ضغط الدم نفسه عرضة للتذبذب عند القياس ، وبالتالي فإن تحديد مريض ضغط الدم المرتفع قد يتم بصورة اعتباطية وغير دقيقة.

2ـ يمثل السبب الثاني في تأثير ارتفاع الضغط بالعوامل البيئية المختلفة ، التي قد يصعب فصلها عن العامل الوراثي.

3ـ أما السبب الثالث فهو أن الخلل الوراثي المسئول عن حدوث مرض ضغط الدم المرتفع يشتمل على تغيير في عديد من الجينات . إذ أن ارتفاع ضغط الدم من الأمراض المعروفة بتعدد الجينات المسئولة. لذلك من الصعب تحديد عيب في تكوين جين واحد بعينه يمكن أن يكون مسئولاً عن حدوث المرض إلا في حالات نادرة جداً.

ب ـ العوامل البيئية:
تشير الدراسات الوبائية المختلفة إلى أن عدداً من العوامل البيئية والمعيشية قد تكون لها علاقة قوية بالإصابة بارتفاع ضغط الدم . وتشمل هذه العوامل : زيادة الوزن(السمنة) وتراكم الشحوم في الجسم ، والإسراف في تناول ملح الطعام والمشروبات الكحولية ، وافتقار الغذاء إلى بعض الأملاح المهمة مثل الكالسيوم والبوتاسيوم والماغنسيوم والتوتر النفسي والقلق العصبي المستمر ، وعدم الحركة والامتناع عن ممارسة الرياضة ، والتلوث البيئي ، وتناول العقاقير المسببة لارتفاع ضغط الدم مثل حبوب منع الحمل . وتوعية الأصحاء ومرضى الضغط المرتفع بهذه العوامل من الأهمية بمكان ، حيث إن إصلاح هذه الخلل البيئي أو المعيشي قد يفيد في منع ارتفاع الضغط والحد من استهلاك الدواء من جانب المرضى . ويكتسب تحديد العوامل البيئية المسئولة أهمية خاصة في حالة الأفراد الذين لديهم استعداد للمرض بناء على وجود تاريخ مرضي وراثي في الأسرة للإصابة بارتفاع الضغط ، أو الذين لديهم ميل لارتفاع الضغط مع كثرة تذبذبه.

زيادة الوزن وتراكم الشحوم في الجسم:
تؤكد نتائج البحوث العلمية أن مرض ضغط الدم المرتفع يزداد انتشاره بين الأفراد الذين يعانون من السمنة , وأن ارتفاع الضغط أو انخفاضه يرتبط بزيادة الوزن أو نقصانه . وتؤثر السمنة على ارتفاع الضغط من خلال العوامل المختلفة التي تصاحب زيادة الوزن مثل :
زيادة حجم الدم الذي يضخه القلب ، وارتفاع كمية الدم والسوائل في الجسم ، وزيادة استهلاك ملح الطعام . كما لوحظ أن الجهاز
overweight
العصبي اللاإرادي(السمبثاوي) يكون أكثر نشاطاً لدى الأفراد السمان ، وكذلك لزيادة مستوى هرمون الأنسولين في حالة السمنة . فقد تبين أن السمنة تصحبها زيادة في مقاومة الجسم لفاعلية هرمون الأنسولين (تفرزه وغدة البنكرياس) في الحد من ارتفاع السكر في الدم ، مما يؤدي إلى زيادة مستوى هرمون الأنسولين في الدم . وجدير بالذكر أن هذا الهرمون الحيوي يعمل على تنشيط الجهاز العصبي السمبثاوي ، ويؤدي إلى حجز الملح في الجسم بالإضافة إلى تأثيره المباشر في زيادة سمك جدران الأوعية الدموية مما يؤدي إلى ضيقها وزيادة مقاومتها لتدفق الدم ـ وتفضي كل هذه العوامل مجتمعة إلى ارتفاع ضغط الدم.
ومن ناحية أخرى . لوحظ أن تجمع الشحم في جدار البطن ، وفيما بين الأمعاء ، وفي الغشاء البريتوني يكون مصاحباً لنوع خاص من السمنة . ويمكن تشخيص هذه السمنة عن طريق قياس محيط الخصر ، أخذاً في الاعتبار علاقته بمحيط الجسم عن الأرداف . هذا النوع من السمنة يؤدي إلى ارتفاع الضغط ، بالإضافة إلى زيادة القابلية للإصابة بمرض السكر وضيق الشرايين التاجية وحدوث الأزمات المخية والقلبية.
ملح الطعام:
تدل الدراسات الوبائية المختلفة على وجود علاقة وثيقة بين ارتفاع الضغط وبين كمية الملح في الطعام. فقد لوحظ مثلاً أم مرض ارتفاع ضغط الدم يكون غير معروف لدى بعض القبائل البدائية التي تقطن منطقة الأمازون في البرازيل واستراليا وهي قبائل لا تعرف ملح الطعام ، ولا يدخل ضمن مكونات غذائها. ومن ناحية أخرى ، ينتشر مرض ضغط الدم المرتفع بمعدلات عالية في المجتمعات التي تستهلك الملح بكميات كبيرة مثل سكان القرى الساحلية بشمال اليابان ، الذين يعتمد غذاؤهم أساساً على السمك المملح
salt
وزيت الصويا الغني بالملح . إذ يصل معدل الاستهلاك اليومي لملح الطعام في هذه القرى إلى حوالي 40 جراماً ، وهو ما يعادل أربعة أمثال معدل الاستهلاك في معظم بلدان العالم . وتعد هذه القرى من المناطق الموبوءة بارتفاع ضغط الدم على مستوى العالم . وتشير الدراسات الوبائية أيضاً إلى أن مستوى ارتفاع ضغط الدم يرتبط بكمية الملح المستهلك.
غير أن العلاقة بين ملح الطعام ، وبين ارتفاع الضغط ليست بهذه البساطة . فقط تنبين مثلاً أن حساسية ضغط الدم وقابليته للارتفاع والانخفاض تبعاً لتفاوت كمية الملح بالطعام ، فقد تختلف من فرد إلى فرد ومن جنس إلى آخر . إذ أن هناك نسبة من مرضى الضغط المرتفع لديهم حساسية مفرطة عن زيادة كمية الملح ، وينخفض بنفس السرعة عن الإقلال منه . وهؤلاء المرضى ذوو الحساسية المفرطة يشكلون حوالي 40% من مجموع مرضى الضغط المرتفع . ومن جهة أخرى ، فقد تبين أن الحساسية للملح تزداد مع التقدم في العمر . لذلك فالمسنون هم الأكثر تأثراً بكمية الملح في الطعام . كذلك وجد أن الجنس الأسود أو الزنجي يكون أكثر حساسية للملح من الأجناس الأخرى . إضافة إلى ذلك ، فقد وجد أن بعض مرضى السكر و الفشل الكلوي يتأثر ضغط الدم لديهم بكمية الملح في الطعام.